عرض كتاب البيان والتبيين / للجاحظ ( ت 255هـ )
نظرا لاهتمامي بمؤلفات الجاحظ ، توجهت إلى المكتبة لأرى حقيقة القول الذي يجعل من الجاحظ موسوعيا .
وعندما ذهبتُ إلى المكتبة ، وجدتُ كثرة المؤلفات التي كتبتْ عن الجاحظ ، فعمدتُ إلى كتابٍ من كتبه وهو كتاب " البيان والتبيين" ، الذي جذبني في عنوانه قبل أي شيء ، إذ يحملُ هذا العنوان التضاد على حقيقته ، وسألتُ نفسي : لماذا البيان مع التبيين؟
والدافع الأكبر الذي دفعني لاختيار هذا الكتاب دون غيره من مؤلفات الجاحظ هو قول ابن خلدون في مقدمة تاريخه على علم الأدب فقال : " وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي : أدب الكاتب لابن قتيبة ، وكتاب الكامل للمبرد ، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي ، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وخروج عنها " .
فأيقنتُ أنه لا بد لكل طالب أدب أن يقرأ هذه الكتب الأربعة ، فقررت البدء بكتاب البيان والتبيين ، فاستعرته وجلستُ برفقته أربعة أيام .
لا بد من الإشارة إلى أن كتاب البيان والتبيين طبع أكثر من طبعة ، وكان آخرها طبعة بتحقيق عبد السلام هارون ، في أربعة أجزاء ، صدرت عن مكتبة الخانجي بالقاهرة 1948م – 1950م ، وهذه الطبعة هي التي اعتمدتها .
خطوات القراءة
عدتُ إلى مؤلفات كتبتْ عن حياة الجاحظ وثقافته وهي كثيرة ، لأتعرف إلى الشخصية العلمية للجاحظ ، ومن أهم هذه المؤلفات معجم البلدان لياقوت الحموي ، وكتاب الدكتور أحمد الطويلي ، الذي ألف كتابا أسماه أبو عثمان الجاحظ ( دراسة ومنتخبات ) .
فقد توصلتُ إلى أن الجاحظ يحظى بمكانة مرموقة في تاريخ الآداب العربية ، فهو علمٌ شامخٌ من أعلام الثقافة العربية ، وأديب موسوعي ،خلّفَ العدد العديد من الكتب والرسائل والتصانيف المختلفة التي تحوي فوائد أدبية وتاريخية ، لها قيمة تاريخية .
ثمّ عدتُ إلى مقدمة الجاحظ في كتابه وقرأتها مراتٍ وأخرى ، فقد عرض فيها بعض آراء العلماء في كتاب البيان والتبيين ، وتاريخ تأليفه ، والاختيارات التي جمعها في كتابه ، ونسخ الكتاب ، إضافة إلى وصف المخطوطات والطبعات السابقة.
وأوضح لنا سبب تأليفه للكتاب ، فقد كان تعصبا للعرب وفصاحتهم وبيانهم ، فهو في مضمونه وغايته في الدفاع عن البيان العربي في مختلف مظاهره ، فقد تحدث فيه عن الألفاظ وفصاحتها ، والأفكار والأساليب ، وتناسب اللفظ والمعنى ، كما ملأ الجاحظ كتابه بالأخبار والنوادر والطرائف ، والشعر وشواهد القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، والخطب ، والأمثال ، وغيرها للدفاع عن ما ذهب إليه ، مما جعل من الكتاب موسوعة أدبية تمثل ثقافة الجاحظ التي أحاطت بمعارف عصره .
ثمّ تابعت قراءة الكتاب في في مباحثه المختلفة ، ومن هذه المباحث : البيان والبلاغة ، والقواعد البلاغية ، والقول في مذهب الوسط ، والخطابة ، والشعر ، والأسجاع ، ونماذج من الوصايا والرسائل ، وطائفة من كلام النّساك والقصاص وأخبارهم ، وضروب من الاختيارات البلاغية.
وفي أثناء قراءتي للكتاب لاحظت أن الجاحظ لم يتقيد بمنهج محكم ، بل يعتمد على الاستطراد والانتقال من موضوع إلى آخر ، ثم العودة إلى ما أسلف من قبل ، مشيّعا جوا من الفكاهة المحببة ، والجاحظ واعٍ بما يصنع ويدافع عن طريقة التأليف التي اختارها قائلا : " قد يجري السبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطا لقارئ الكتاب ، لأن خروجه من الباب إذا طال لبعض الكلام ، كان أروح على قلبه ، وأزيد في نشاطه " .
وقد كان من نتيجة هذه الطريقة في تأليف الكتاب أنّ بعض فصوله جاءت كالاستدراك على أبواب سبقت في الكتاب ، ويعزو بعضهم ذلك إلى عدم توافر المصادر بين يدي المؤلف خلال عملية الكتابة ، مما اضطره إلى حشر المواد التي تيسرت له فيما بعد .
كما لاحظتُ أيضا الاضطراب عند الجاحظ في ترتيب فصول كتابه ، فقد ترك بعض الفصول دون عنوان ، وأتت بعض الفصول متناثرة ، وكان من المنهجي وضعها تحت عنوان كبير يجمع بينها .
فكان كتابه خاليا من الترتيب والتنظيم والتقسيم ، فأتت المسائل مبثوثة بالكتاب ، متفرقة فيه ، منتشرة هنا وهناك ، مما دفع أبا الهلال العسكري (ت395) إلى تأليف كتابه " الصناعتين " لسدّ هذا الخلل فقال في مقدمة كتابه مشيرا إلى كتاب الجاحظ :
" إن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة ومنتشرة في أثنائه ، فهي ضالة بين الأمثلة ، لا توجد إلاّ بالتّأمل الطويل والتّصفح الكثير " .
فالبلاغة عند الجاحظ تختلط تارة بالخطابة وأخرى بالإيجاز والإطناب ، وأحيانا هي الفهم والإفهام ومرّات هي المعنى ، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال ومراعاة المقام.
وبعد ذلك عدتُ إلى مصادر الدراسة الأدبية التي تحدثت عن هذا الكتاب فكانت كثيرة ، منها مناهج التأليف عند العلماء العرب لمصطفى الشكعة ، والمكتبة العربية ومنهج البحث للدكتور محمد رضوان الداية ، فقد تحدثت عن الكتاب وفصوله ، وبعض المآخذ على طريقة ترتيبه للفصول .
واتضح لي بعد قراءتي لفصول الكتاب ، أنه سماه البيان : " أي ظهور المعاني القائمة في النفس بوساطة إحدى الدلالات أو الوسائل التعبيرية ، والتبيين أي : قدرة الإنسان على الإيضاح عن أفكاره وإظهارها بوضوح .
نتائج البحث
كانت المقدمة منذ الكلمة الأولى شاملة وافية ، تكشف شخصية الجاحظ العلمية ، وتكشف عمق العبارة عنده ، فالجملة تحمل بعدا سطحيا ، وأبعادا أخرى هي التي يريدها الجاحظ .
أما في الفصول فقد أثبتت هذه الفصول موسعية المعرفة عند الجاحظ ، والذي أكّد هذا الأمر الاستطراد الذي تميز به أسلوب الجاحظ .
ويكاد الكتاب أن يكون مؤلفا في البيان مستقلا ، سرد فيه الجاحظ إلى جانب آرائه في النقد آراء أدباء عصره وعلمائه ، وفيه من الخطب والأشعار والأمثال والنوادر مختار جليل شديد الصلة بقضايا البيان وموضوعاته .
وتوصلت إلى أن مفهوم البلاغة عند الجاحظ : أن يكون الكلام خاليا من الألفاظ الوعرة الغريبة والمعقدة ، وأن يكون الكلام مطابقا لمقتضى الحال ، ومناسبا للمقام ، وأن يكون مصيبا للغرض من حيث الإفهام والإيضاح أو إقناع الخصم وإفحامه .
أختكم ديما .......